قال الله تعالى: {ياأيُّهَا الَّذين آمَنوا اتَّقُوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ ولا تَموتُنَّ إلاَّ وأنتُم مسلِمُونَ(102) واعتَصِموا بحَبْلِ الله جميعاً ولا تَفَرَّقُوا واذكُروا نِعمَةَ الله عليكم إذ كُنتُم أعداءً فألَّفَ بين قُلوبِكُم فأصبَحتُم بنعمَتِهِ إخواناً وكُنتُم على شَفا حُفرةٍ منَ النَّارِ فأنقَذَكُم منها كذلك يُبَيِّنُ الله لكم آياتِهِ لَعَلَّكُم تَهتَدُونَ(103)}
سورة آل عمران
سورة آل عمران
- تتضمَّن هذه الآيات الكريمة دعوة للمؤمنين كي يجاهدوا أنفسهم، ويستسلموا بكلِّ جوارحهم للإيمان بالله، ويواصلوا العمل حتَّى آخر رمق من حياتهم بما يقتضيه هذا الإيمان.
- حين تتغلغل محبَّة الله في القلوب، تتفرع عنها محبَّة لسائر مخلوقاته، وبالسير على نهجه القويم، تتوحَّد الخُطا وتتشابك الأيدي في تعاون وأُلفة، تنأى بالمؤمنين عن مهاوي الهلاك والشقاق، وتجعل منهم إخواناً متحابِّين.
يأمر الله تعالى، من خلال هاتين الآيتين جميع المؤمنين في كلِّ أرجاء المعمورة، أن يتركوا الشهوات والشبهات ويزكُّوا أنفسهم، كي يتمكَّن الإيمان من قلوبهم، وتترسَّخ جذوره في أعماقهم، فيستسلموا استسلاماً كاملاً لشريعة السماء، ويخلصوا في العمل من أجل السَّلام والإخاء الإيماني، دون كلل أو ملل حتَّى الرمق الأخير. ويناديهم الله تعالى بهذا النداء المحبَّب: {ياأيُّها الَّذين آمنوا} ليستثير عواطفهم الكريمة، فيتلقَّوا أوامره ونواهيه بقلوب مؤمنة مطمئنة، ومن هذه الأوامر الدعوة إلى التَّقوى؛ وهي أن يُطاعَ الله فلا يُعصى، وأن يُذكرَ فلا يُنسى، وأن يُشكرَ فلا يُكفر، وكلَّما زادت تقوى القلب استيقظ شوقه إلى مقام أرفع ودرجة أرقى.
فإذا تمكَّن الإيمان من القلب، وترسَّخت جذوره في صميم النفس، أثمر حالة من حالات الرضا، الَّتي تفجِّر الطاقات الكامنة، وتحرِّك القوى الهاجعة في أعماق الإنسان، فيندفع إلى الخير اندفاع المحبِّ إلى ما يُحِبُّ، ويبتعد عن الشرِّ ابتعاد الكاره عما يكره، وهذه المنزلة لا يصل إليها إلا من اتقى المحارم والشُّبُهات، واقتصد في الشهوات والملذَّات، وجاهد نفسه وتجافى عن الدنيا دار الغرور؛ فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الدنيا حلوةٌ خضِرةٌ وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون فاتَّقوا الدنيا..» (رواه مسلم).
وتؤكِّد الآية على ضرورة تمسُّك المؤمنين بالتَّقوى، وأن يبقوا على تسليمهم المطلق لله تعالى في جميع أوقات حياتهم وسائر ظروفهم، ليموتوا مسلمين حين انقضاء آجالهم. فمن شبَّ على شيء شاب عليه، ومن عاش على شيء مات عليه، ومن مات على شيء بعث عليه.
والله سبحانه إنما دعا الناس إلى الإسلام لأنه يجمع القلب إلى القلب، ويضمُّ الصفَّ إلى الصفِّ، هادياً لإقامة كيان موحَّد، ونبذ عوامل الفرقة والضعف وأسباب الفشل والهزيمة؛ ليكون لهذا الكيان القدرة على تحقيق الغايات السامية، والمقاصد النبيلة، والأهداف المثلى الَّتي جاءت بها رسالته العظمى. فهو يكوِّن روابط و صِلات بين أفراد المجتمع لتُوجِد هذا الكيان وتُدعِّمه، وهذه الروابط تقوم على الأخوَّة المعتصمة بحبل الله، وهي نعمة يمنُّ الله بها على المجتمع، ويهبها لمن يحبُّ من عباده ويحبُّونه، فما من شيء يجمع القلوب مثلُ الأخوَّة في الله، حيث تتلاشى إلى جانبها الأحقاد القديمة، والأطماع الشخصية، والنزعات العنصرية. قال تعالى: {.. وَمَن يَعْتَصِمْ بالله فَقد هُدِيَ إلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (3 آل عمران آية 101).
وإذا كانت وحدة الكلمة هي القوَّة الَّتي تحمي دين الله، وتحرس دنيا المسلمين، فإن الفرقة هي الَّتي تقضي على دينهم ودنياهم معاً. ولن يصل المجتمع إلى تماسكه إلا إذا بذل له كلُّ فرد من ذات نفسه، وكان عوناً له في كلِّ أمر، ليصبح أفراده كما وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه الَّذي رواه النعمان بن بشـير رضي الله عنه : «مَثَلُ المؤمنين في توادِّهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجـسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى» (متفق عليه)، وما رواه أبو موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدُّ بعضه بعضاً، وشبَّك بين أصابعه» (متفق عليه).
وخير مثال على هذا؛ الأمَّة العربية الَّتي كانت في بدء أمرها فرقاً متعادية وقبائل ممزَّقة، ثمَّ هبَّت عليها نفحة الإسلام فجمعت شتاتها، ووحَّدت كلمتها، فانطلقت إلى غايتها الكبرى في توحيد العالم تحت راية الهداية والعلم والأخلاق الفاضلة، بعد أن عرفت طريقها، وأحكمت خطَّتها، فجنت أطيب الثمرات من وراء الوحدة والاتحاد؛ وأدركت عملياً ـ بعد أن آمنت عقلياً وقلبياً ـ أن الوحدة قوَّة، وأن التفرُّق ضعف، وأنه ما من شدَّة تعرَّضت لها إلا كان سبَبُها الاختلاف والانقسام، لذلك كان همُّ أعدائها أن يتَّبعوا معها سياسة (فرِّق تَسُدْ)، وأوجدوا بذلك الثغرات الَّتي نفذوا من خلالها إلى مآربهم. وقد علَّم الرسول صلى الله عليه وسلم أتباعه كيف يكونون يداً واحدة، وقلباً واحداً في مادياتهم ومعنوياتهم وحركاتهم وسكناتهم، فعن ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «المسلم أخو المسلم لا يظلِمُه ولا يُسلِمهُ، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرَّج عن مسلم كُربةً فرَّج الله عنه بها كُربة من كُرب يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة..» (متفق عليه).
وقد صوَّر النصُّ القرآني حال القوم حين كانوا متفرِّقين مختلفين، في مشهدٍ حيٍّ متحرِّك تضطرب له القلوب، فمثَلُهم في التفرقة كمثل قوم أشرفوا على هوَّةٍ بركانية ملتهبة، وبينما هم على وشك السقوط في النار إذا بيد العناية الإلهية تمتَدُّ إليهم فتتدارك هلاكهم وتنقذهم، وإذا بحبل الله يؤلِّف بينهم، ويجمع شملهم. فما أجملها من نعمة قد تفضَّل الله بها عليهم، فأكرمهم بالنجاة والخلاص بعد الخطر والترقُّب، وقد بَـيَّن الله تعالى فضله في تأليف تلك القلوب، وإنقاذها من براثن الفرقة والضياع بقوله سبحانه: {..هو الَّذي أيَّدَكَ بنصرِهِ وبالمؤمنين * وألَّف بين قلوبِهِمْ لو أنفقتَ ما في الأرضِ جميعاً ما ألَّفتَ بين قلوبِهِمْ ولكنَّ الله ألَّفَ بينهم إنَّه عزيزٌ حكيمٌ} (8 الأنفال آية 62ـ63)، وبذلك وضَّح الله طريقه الَّذي ارتضاه للناس كي يسلكوه فيهتدوا به إلى سعادة الدارين.
إنّ أعداء الإسلام والمسلمين يحيطون بالإسلام وأهله إحاطة السوار بالمعصم .. ويحاربونهم بكافة السبل والوسائل المتاحة لهم .. عسكرياً واقتصادياً وفكريّاً .. وإنهم لن يكفوا عن حربهم لهم ولا لحظة واحدة .. ولن يفرطوا في أي فرصة تسنح لهم ليصيبوا بعض مرادهم ويحققوا بعض مخططاتهم .. ولهم أتباع من أبناء جلدتنا يسيرون على ضلالهم ، ويتبنون شبهاتهم وشهواتهم ، وينفذون مطالبهم ، ويروجون لباطلهم ومنكراتهم .
وإنّ غايتهم هي إبعاد المسلمين عن دينهم ، وتعبيدهم لغير رب العالمين ، وتصييرهم أدواتٍ مطيعة لشياطين الجن والإنس ، وجعلهم يتنافسون على الدنيا وملذاتها ومتعها ، ويحرصون على الحياة والتعب من أجلها ، والكدّ والنّصب في سبيل تحصيلها .
وإنّ من أهم الأمور التي يحرص عليها أعداء الإسلام والمسلمين ، بثّ الفرقة والخلاف بين المسلمين ، وبذر الشقاق والعداء بينهم ، ومحاولة إشغالهم عن قضاياهم الكبرى والمصيرية بخلافات ونزاعات تورث الضغينة والحقد والكراهية بينهم ، حتى ينسوا عدوهم وينصرفوا عنه ، ويكون شغلهم الشاغل النزاع والغلبة ، وينتصر هذا لجماعته وشيخه ، وذاك لجماعته وشيخه ، ويكون العدو خلالها قد مرر ما يريد ويشاء من مخططاته وضلالاته .
وإنّ أعداء الإسلام والمسلمين وأتباعهم ، لن يقصروا في اتّباع كل وسيلة تؤدي إلى تأجيج هذه النزاعات والخلافات ، عن طريق عملائهم ووسائل إعلامهم ، من أجل إطالة أمد الخلاف والنزاع ، وتشويه صورة أهل الخير والصلاح عند المجتمعات الإسلامية ، وإيغار صدور بعضهم على بعض ، ومن أجل خلخلة الثقة ونزعها منهم وجعل عامّة الناس يتجرئون على علماء الإسلام ودعاته ، وعلى المجاهدين في سبيل الله ، وعلى أهل الالتزام .
إننا ندعو العلماء والدعاة وطلبة العلم وأهل الالتزام ونقول لهم : تعالوا إلى كلمة سواء ، تعالوا لنجتمع على الحق والهدى ، تعالوا لنعالج واقعنا الذي نعيشه ، تعالوا لنعالج أخطائنا وتقصيرنا ..
إننا نقول لهم : إن وقوع الخطأ والزلل أمر لازم للبشر ، ولا بد لهم من أن يقعوا فيه ولكن : ( خير الخطائين التوابون ) والرجوع إلى الحق فضيلة ، وإعلان ذلك وبيانه منقبة ..
إننا نقول لهم : لا مانع لدينا من التنبيه على الأخطاء ومناقشتها ، والأخذ والرد فيها ، ومن بيان الحق ، ومن إيضاح الأمور وتجليتها ووضعها في إطارها الصحيح .. بل إن هذا الأمر واجب ومتعيّن ، ولكن يختار له الكلمات المناسبة والوقت المناسب والطريقة المناسبة .. وأيضاً : أن لا تُستهلك الأوقات وتستعر القلوب بسببها كراهية وحقداً ، وأن لا تشتمل على اتهامات ودعاوى لا أصل صحيح لها ، ولا مستند أصيل يدل عليها .
إننا لا ندعو لإحياء أمور مضت وذهبت ، ولا لتفتيش إرشيف الماضي والأيّام الخالية ، ولا لإلقاء اللوم على فلانٍ أو فلان .. لكننا ندعو لتجاوز المرحلة مع الاستفادة من دروسها ، والاعتبار والاتعاظ والادّكار .
إننا ندعو لمرحلة البناء ، مرحلة الوحدة والاجتماع على الحق والهدى ، مرحلة الالتفات إلى الخطر المحدق الذي يحيط بنا ، وإلى البلاء الذي يوشك أن يفتك بنا ..
إننا نوجهها صريحة واضحة جليّة :
1- العقوبات الإلهية الشاملة العامّة توشك أن تحلّ بنا ، وقد حلّ بعضها ونزل ..
2- العلمانيون يحققون كثيراً مما كانوا يصبون إليه .. ويواصلون جهودهم ..
3- انصداع الصف والتفرق والتمزق والشقاق أمر ازداد واتسع وفرح به أعدائنا ..
4- الانشغال بقيل وقال عن أوضاعنا ومنكراتنا وأعدائنا ..
5- خذلان المجاهدين والمأسورين والمستضعفين نتيجة التلاوم والنزاع ..
6- قسوة القلوب وقلّة الورع والشدة على المسلمين نتيجة خطأ متوهم أو فهم لا يسنده دليل صحيح ..
7- تتبع الخلافات والنزاعات أكثر من تتبع أحوال إخواننا المسلمين المضطهدين ، ومن تتبع مخططات أعداء الدين ..
إننا نوجهها كلمة ناصحة ودعوة صادقة في الإنترنت وفي خارجه :
كفى نزاعاً وشقاقاً وخلافاً .. دعو العلماء والدعاة وطلبة العلم يختلفون .. وخذوا الحق بالدليل .. وارجعوا إلى من تثقون بدينه وعلمه عند الخلاف ، وعند حلول الفتن والمحن والمصائب .. واقبلوا الحق بالدليل .. وإيّاكم والهوى أو الانتصار للنفس ، وإيّاكم واتهام الغير بما ليس فيه .. وإيّاكم والانشغال عن إخوانكم المجاهدين ، عن إخوانكم المستضعفين ، عن إخوانكم المضطهدين ، عن أخواتكم اللواتي يستغثن ويطلبن النصرة وما من مجيب ..
يا قومِ أفيقوا فوالله إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن لما نشاهد ونرى ..
أما تحرك قلوبكم جراحات المسلمين .؟
أما تشغل بالكم صرخات الثكالى وصيحات المسلمات اللواتي تنتهك أعراضهن .؟
أما يصيح بكم صائح { تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم .... } الآية .؟
أما يدفعكم حال مجتمعاتكم وما فيها من منكرات كثيرة شركيّة وكفريّة ودون ذلك إلى صرف الجهود لمكافحتها ومحاربتها والوقوف ضدها .؟
يا قومنا هذه دعوة وكلمة علّها أن تجد آذاناً واعية { إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد } .
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين ..