بسم الله نبدأ وبكتابه نهتدي وعلى طريق نبيه نسير..
أمة الإسلام خير أمة أخرجت للناس ليس لذاتها ولكن بما فضلها الله به.. { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ تَأمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِالله } [آل عمران: من الآية 110]
كلنا يتساءل من أين يبدأ طريق النصر , من أي موضع تولد الأمة من جديد , وما السبيل لذلك.
أما الإجابة فهي منتظرة من يعمل بها غير خافية ولا مختفية, ألم نسمع لقول المعصوم (صلى الله عليه وسلم) فيما رواه أحمد وأبو داود أن أمته ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة.. [كتاب السنة: 2] وفي حديث عنه (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: « هم من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي »
إذن أحبتي في الله من هنا تولد الأمة ثانية من نفس الموضع الذي ولدت منه ولادتها الأولى, فلننظر إلى عوامل نصر الأولين فهي والله عوامل نصر الآخرين.
وقد صغت هذه العوامل من السفر الطيب الرحيق المختوم لصفي الرحمن المباركفوري , مع دعمها بما يلائم واقع الأمة الحي والله المستعان
العامل الأول: الإيمان بالله:
فالإيمان بالله وحده ومعرفته سبحانه حق المعرفة, وخلع كل ما يعبد من دونه, من ولي أو حجر أو شجر أو ساحر أو كاهن, الإيمان به تعالى خالقاً رازقاً حكماً فلا خالق إلا هو ولا رازق سواه, ولا حكم في أمور الناس بغير حكمه فنحن صنعة الله وخلقه وهو أعلم بما فيه صيانة لنا وحفظ فكيف بمن التمس الحفظ والصيانة في غير شرعه, بل كيف بمن جعل نفسه لله نداً وشريكاً يشرع للناس ما يتحاكمون إليه من دونه, لا يتم إيمان العبد إلا بخلع كل ما يعبد أو يطاع أو يوالى من دون الملك سبحانه.
فبهذا المفهوم الكبير وبهذا الإيمان الراسخ وقف الصحابة شم الأنوف واستعلوا بإيمانهم على ترهات الباطل وإيذاءه وشدته وغباءه, بالحق وحده تحيا الأمم, وبالعدل تسود, ولا أعدل ولا أحق من شرع الله تعالى وهديه, فلا اشتراكية ولا علمانية ولا بوذية ولا نصرانية ولا صهيونية يهودية ولا ولا ولا .... هكذا كانت بيضاء نقية, خالية من أي من أدران الجاهلية, فالله أكبر يا بلال الله أكبر وأنت وحدك تعذب في رمضاء مكة المحرقة وأنت ثابت الجأش, هانت عليك نفسك في الله فثبتك الله, لله درك من هزبر, لله در سابق الحبشة, لو سئل اليوم أي مسلم في أقصى الأرض أو أدناها من هو مؤذن الرسول (صلى الله عليه وسلم) لقال بكل طلاقة بلال, سبحان الله فالجزاء من جنس العمل { وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } [العنكبوت: من الآية 69] , لله در ياسر وزوجه الطاهرة سمية أم عمار, لله در مصعب الذي تخطى الصعاب, لله در هؤلاء الأصحاب, انمزج الإيمان بقلوبهم فحل الدين منهم محل الدم واللحم والعصب بل هو أكثر من ذلك, وهكذا الإيمان إذا ما خالطت بشاشته القلوب يزن الجبال ولا يطيش, حتى يرى صاحب هذا الإيمان كل تعب وابتلاء مهما كثر وكبر وتفاقم واشتد يراه في جنب إيمانه طحالب عائمة فوق سيل جارف جاء ليكسر السدود المنيعة والقلاع الحصينة, فلا يبالي بتلك المتاعب أمام ما يجده من حلاوة الإيمان.. { فَأمّا الزّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأمّا مَا يَنْفَعُ النّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأرْض } [ الرعد: من الآية 17]
فتوحيد الله بربوبيته وأسماءه وصفاته وإلهيته وخلع كل معبود من دونه واتباع شرعه وخلع كل هدي سوى هديه هو سبيل المؤمنين الأول والأوحد, بل إن باقي العوامل تتفرع وتنبثق من هذا العامل الأوحد.
العامل الثاني: القيادة التي تهوى إليها الأفئدة المتمثلة في رسول الله (صلى الله عليه وسلم):
فالرسول (صلى الله عليه وسلم) هو القائد الأعلى للأمة الإسلامية بل وللبشرية جمعاء.
ولن تسعد البشرية إلا بتولي هذه القيادة الربانية لمقاليد أمورها. فإن كان الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم) قد فارق الأمة بجسده إلا أنه خلف لها هديه وبلغ لها شرع ربه , ودل الأمة على ورثة هذه القيادة الحكيمة التي تنتظر البشرية قيامها ليتحقق لها الأمن والسعادة الحقيقية من جديد فقال عليه الصلاة والسلام: « إن العلماء هم ورثة الأنبياء إن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً إنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر » [صحيح ابن ماجه: 182], فالعلماء يقومون في الناس مقام الأنبياء في أقوامهم, ويقولون بمقال الأنبياء فهم الورثة الشرعيون للرسل , لذا فلا ملاذ للأمة بعد ربها سبحانه إلا لمن دلهم عليه شرع ربهم , وشرع الملك سبحانه يدلنا على اللجوء لعلماء الأمة عندما تلم بالأمة الملمات , وتحيط بها المصاعب والمشكلات , فهم حملة لواء الرسول (صلى الله عليه وسلم).
لقد كان لمكارم أخلاقه (صلى الله عليه وسلم) وكمال نفسه, وشيمه النبيلة, ما يدفع إليه القلوب دفعاً, فكان في أعلى قمة من الشرف والأخلاق والنبل والخير والفضل, وكان من العفة والأمانة والصدق ومن جميع سبل الخير على ما لم يتمار ولم يشك فيه أعداؤه فضلاً عن محبيه, فمن صدوا عنه أنفسهم كانوا يوقنون بصدقه (صلى الله عليه وسلم) وهاك بعض الأدلة على ذلك:
كان أبو جهل يقول: يا محمد إنا لا نكذبك ولكن نكذب بما جئت به, فأنزل الله: { فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ } [الأنعام: من الآية33].
اجتمع ثلاثة نفر من قريش , كان قد استمع كل واحد منهم إلى القرآن سراً عن صاحبيه ثم انكشف سرهم, فسأل أحدهم أبا جهل –وكان من أولئك الثلاثة – ما رأيك فيما سمعت من محمد؟ فقال: ما سمعت؟ تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف, أطعموا فأطعمنا, وحملوا فحملنا, وأعطوا فأعطينا, حتى إذا تحاذينا في الركب, وكنا كفرسي رهان, قالوا: لنا نبي يأتيه الوحي من السماء, فمتى ندرك هذه؟ والله لا نؤمن به أبداً ولا نصدقه.
غمز الكفار يوماً رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ثلاث غمزات فقال في الثالثة: يا معشر قريش جئتكم بالذبح, فأخذتهم تلك الكلمة, حتى إن أشدهم عداوة يرفؤه بأحسن ما يجد عنده.
ولما ألقوا عليه سلا جزور وهو ساجد دعا عليهم, فذهب عنهم الضحك, وساورهم الهم والقلق, وأيقنوا أنهم هالكون.
دعا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) على عتبة بن أبي لهب فلم يزل على يقين من إلقاء ما دعا به عليه, حتى أنه حين رأى الأسد قال: قتلني والله -محمد- وهو بمكة.
وكان أبي بن خلف يتوعده بالقتل, فقال الرسول (صلى الله عليه وسلم): "بل أنا أقتلك إن شاء الله", فلما طعن أبياً في عنقه يوم أحد, وكان خدشاً غير كبير, كان أبى يقول: إنه قد قال لي بمكة: أنا أقتلك, والله لو بصق علي لقتلني.
يا للعجب هذا حال صناديد قريش معه (صلى الله عليه وسلم) في تصديقه وعدم تكذيبه, ويخرج الآن من أمته (صلى الله عليه وسلم) من يدعي اتباعه ثم ينكر سنته, ويقول لا نتبع إلا الكتاب, ومنهم من يقول ما وافق عقولنا قبلناه وما لم يوافق طرحناه, فأصبحوا وقد عبدوا عقولهم والعياذ بالله, فجعلوا منها حكماً على شرع الله, وبالطبع الشرع لا ينفي دور العقل, وإنما يهذبه ويهديه, فالعقل أداة فهم لشرع الله سبحانه وليست أداة حكم عليه.
فيا أمة الإسلام عودي تحت عباءة نبيك (صلى الله عليه وسلم) وارتمي تحت لوائه فوالله لن يدخل الجنة منك أحد إلا خلفه (صلى الله عليه وسلم).
وأذكر بقوله تعالى: { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [النور: من الآية 63], فمخالفة أمره أي هديه عليه الصلاة والسلام ومنهجه وطريقه وسبيله, توعد الله من خالف رسوله (صلى الله عليه وسلم) بالفتنة في الدنيا والعذاب الأليم في الآخرة.
وقال تعالى: { وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَالَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً } [الفرقان: 27].
فالله الله يا أمة الإسلام هذا طريقكِ واضح المعالم وهذا نبيكِ لواء كل عالم, وهذا هديه منار كل سالم.
العامل الثالث: الشعور بالمسؤولية:
من أهم العوامل المسببة للنصر عامل شعور المسلم وإيمانه بمسئوليته نحو أمته ودوره مع إخوانه, ولولا أن قدر الله هذا الشعور العميق بالمسؤولية لدى صحابة رسوله (صلى الله عليه وسلم) ما وصل إلينا هذا الدين وما عمَّنا هذا النور, ولو لم نحمل نفس الشعور فلن يصل الدين إلى أبنائنا, إلا إذا قدر الله تعالى واستبدلنا بقوم يحبهم ويحبونه يوصلون لأبنائنا عقيدتهم بيضاء نقية.
لقد كان شعور الصحابة عليهم من الله الرضوان شعوراً تاماً بالمسؤولية الضخمة الملقاة على كواهلهم, وأن هذه المسؤولية لا يمكن عنها الحياد والانحراف بحال, فالعواقب التي تترتب على الفرار من تحمل هذه المسؤولية أشد وأكبر ضرراً مما هم فيه من الاضطهاد, وأن الخسارة التي تلحقهم –وتلحق البشرية جمعاء – بعد هذا الفرار لا تقاس بحال بالمتاعب التي كانوا يواجهونها نتيجة هذا التحمل.
وقد قدر الله تعالى على أهل الصحوة الإسلامية المباركة أن يعيدوا ولادة الأمة من جديد في غربة الإسلام الثانية التي ذكرها الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام, وبنفس المنطق فالعواقب التي تترتب على الفرار من المسؤولية أشد وخامة وأكثر ضرراً من أي اضطهاد أو تشويه لصورة هذا أو ذاك, أو تحل نظرة المجتمع ووصمه لأهل الحق بالعديد من المسميات, أو ملاقاة التعذيب وما يصاحبه من تهديدات.
العامل الرابع: القرآن:
في هذه الفترة بالذات وفي كل الفترات فالقرآن هو خير زاد, وأفضل معلِّم وموجَّه لأهل العمل الإسلامي.
ففي فترات اضطهاد الصحابة وما كانوا يقابلونه من إيذاء وتشويه لطريقهم كانت تنزل السور والآيات تقيم الحجج والبراهين على مبادئ الإسلام بأساليب منيعة خلابة, وترشد المؤمنين إلى أسس قدر الله أن يتكون عليها أعظم وأروع مجتمع بشري عرفه الوجود.
كما كانت الآيات تنزل على الأصحاب تحضهم على الصبر وعلى التجلد, فتضرب لذلك الأمثال, وتبين لهم الحكمة البالغة المترتبة على الصبر والثبات مثل قوله تعالى: { أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ } [البقرة: 214], { الم - أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ0 وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ اْلكَاذِبِينَ } [العنكبوت: من1-3].
كما كان يأتي رد القرآن على إيرادات الكفار والمعاندين رداً مفحماً لا يبقى لهم معه حيلة, ثم يتَّبع القرآن معهم تارة التحذير في جلاء ووضوح مستدلاً بأيام الله, والشواهد التاريخية التي تدل على سنة الله في أوليائه وأعدائه, وتارة بالتلطف وأداء حق التفهيم والإرشاد والتوجيه, حتى ينصرفوا عما هم فيه من الغي والضلال المبين.
كما كان القرآن يسير بالمسلمين في عالم آخر, ويبصرهم من مشاهد الكون, وجمال الربوبية وكمال الألوهية وآثار رحمة الله, ما يحنون إليه حنيناً لا تقوم له أي عقبة.
وخطاب القرآن الذي وجهه الله تعالى لهم ولنا, جاء فيه من البشرى برحمة الله ورضوانه وجناته وما فيها من النعيم المقيم وتصوير أعدائهم يحاكمون ويصادرون ثم يسحبون إلى النار على وجوههم ذوقوا مس سقر.
فالإيمان بمشاهد اليوم الآخر جزءٌ لا يتجزأ من كتاب الله تعالى وهذا هو العامل التالي.
العامل الخامس: الإيمان باليوم الآخر:
فالإيمان باليوم الآخر قوَّى الشعور بالمسؤولية لدى الأصحاب, وكذا يجب أن يقوِّي الشعور بالمسؤولية لدى أمة الإسلام اليوم.
فالإيمان باليوم الآخر يقوِّي اليقين لدى المسلم بلقاء الله تعالى والقيام إليه عز وجل, والمحاسبة على الأعمال دقها وجلها, صغيرها وكبيرها, فإما النعيم المقيم, وإما العذاب في سواء الجحيم, فكانوا يقضون حياتهم بين الخوف والرجاء, يرجون رحمة ربهم ويخافون عذابه.. { وَالَّذِينَ يُؤتْوُنَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ } [المؤمنون: 60]. وكانوا يعلمون أن الدنيا بعذابها ونعيمها لا تساوي جناح بعوضة في جنب الآخرة, فكان ذلك الإيمان القوي يهون عليهم متاعب الدنيا ومشاقها ومرارتها, حتى كانوا لا يكترثون لها ولا يلقون لها بالاً.
وهكذا يجب على أبناء اليوم أن يعلِّقوا قلوبهم بما عند ربهم سبحانه, وأن يضعوا الدنيا موضعها الحقيقي, فما هي إلى وسيلة لبلوغ غاية هي رضوان الله وجنته, أما أن تكون الدنيا في ذاتها غاية فهذا بلاء مبين, وشر مستطير, فالدنيا قنطرة للوصول إلى دار النعيم المقيم, فإن أخذنا منها, فلا نأخذ إلا لنصرة الدين, وللعدة التي أمر الله بها لسبيل التمكين, وبلوغ منزلنا الحقيقي, فموعدنا غداً في دار خلد بها يحيا الحنون مع الحنون إن شاء الله.
وأخيـــــــــــــراً: عامل البشارات بالنجاح:
فالعمل للإسلام ليس معناه جر المصائب والحتوف, بل إن الدعوة الإسلامية تهدف منذ أولها إلى القضاء على الجاهلية الجهلاء والنظم الغاشمة, وإن من أهدافها بسط سلطان الله وشرعه على الأرض لتمتلئ الأرض سماحة وعدلاً بعد أن كانت ملئت ظلماً وجوراً, ومن أهدافها كذلك السيطرة على الموقف السياسي العالمي لتقود الأمة الإنسانية والجمعية البشرية إلى مرضاة الله, ولتخرجهم من عبادة العباد إلى عبادة الله ومن جور الحكَّام إلى عدل الإسلام.
وكان القرآن ينزَّل بهذه البشارات ففي شدة الحصار والتضييق كانت تنزل الآيات بما جرى بين الأنبياء وأقوامهم الذين قاموا بتكذيبهم والكفر بهم, وكانت تشتمل هذه الآيات على ذكر الأحوال التي تطابق تماماً أحوال مسلمي مكة وكفارها, ثم تذكر الآيات ما تمخضت عنه تلك الأحوال من إهلاك الكفرة والظالمين, وإيراث عباد الله الأرض والديار, فكانت في هذه القصص إشارات واضحة إلى فشل أهل مكة في المستقبل ونجاح المسلمين مع نجاح الدعوة الإسلامية.
وكذا هي بشارات للأمة في كل زمان ومكان يضطهد فيه أهل الإسلام فالعاقبة دائماً للمتقين وهذا وعد الله ومن أعظم من الله وأحسن قيلاً.
فمن هذه البشارات قوله تعالى: (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ0 إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ0 وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ0 فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ0وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ0 أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ0 فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرينَ)][الصافات: من 171-177], وقال تعالى: (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوُّلونَ الدُّبُرَ) [القمر: 45], وقال تعالى: (جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ)[صّ: 11], وقال تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلََيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ0 وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ) [ابراهيم: 13, 14].
وكان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) نفسه يقوم بمثل هذه البشارات بين آونة وأخرى فكان إذا وافى الموسم, وقام بين الناس في عكاظ ومجنة وذي المجاز لتبليغ الرسالة, لم يكن يبشرهم بالجنة فحسب, بل يقول لهم بكل صراحة: "يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا, وتملكوا بها العرب وتدين لكم بها العجم فإذا متم كنتم ملوكاً في الجنة". رواه الترمذي.
وفي صحيح البخاري عن خباب بن الأرت قال: أتيت النبي (صلى الله عليه وسلم) وهو متوسد برده, وهو في ظل الكعبة, وقد لقينا من المشركين شدة, فقلت: ألا تدعوا الله, فقعد, وهو محمر وجهه, فقال: لقد كان من قبلكم ليمشط بمشاط الحديد مادون عظامه من لحم وعصب ما يصرفه ذلك عن دينه, وليتمن الله هذا الامر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ما يخاف إلا الله –زاد بيان الراوي – والذئب على غنمه وفي رواية ولكنكم تستعجلون" [البخاري].
فيا أمة غالية ويا ذروة عالية ويا مهجة حانية ويا جوهرة مصونة و درة مكنونة أسأل الله لكِ أن تسودي من جديد, وأسأله تعالى طمعاً في رحمته أن نرى سؤددكِ بأعيننا قبل أن نوارى التراب.
وقبل أن أستودعكم الله أنقل لكم هذه الأبيات الشعرية:
يا أمة الإسلام بشرى لن يطول بكِ الهوان
قد لاح فجركِ باسماً فلترقبي هذا الزمان
أبطالنا بجهادهم ومضائهم قسموا الجبان
وبنوا لمجدكِ سلَّماً بدمائهم بلغ العنان
فلتهنئي يا أمتي ولَّى زمان الغافلين
كم من سنين قد مضت والليث يهتف لن أعود
لن أنثني لن أشتكي لن أرتضي ذل القعود
ولسوف أمضي شامخاً رغم المشقة والقيود
هذا وقد عشق المنايا وارتدى ثوب الصمود
ما كان يوماً خائراً يخشى العدا أو يستكين
يا أيها البطل الذي فارقت أهلك في سكون
ورحلت ترفل باسماً تشدو بألحان المنون
وتقول عفواً يا رفاق فإنما طال الحنين
ولربما الأمل الذي أرجوه ترمقه العيون
فلعلني يا إخوتي أكسى ثياب الخالدين
فلعلني يا إخوتي أكسى ثياب الخالدين