ماذا يريدُ دُعاةُ التسويّة من المرأةِ المسلمةِ ؟
احتلت إشكاليّة المرأة وقضاياها مساحة كبيرة في ساحة الحِوار العالميّ الذي يجري هذه الأيّام فوق صفيح ساخن، وهو غالبا حِوار أُحاديّ الجانب ؛ إذ تحاول بعض القوى العالميّة فرض أجندةِ مشاكلِها ورُؤاها علينا باعتبار أننا الآن في مرحلة تراجع حضاريّ هائل، رُبّما لم يسبق لها مثيل على طول فترات تاريخنا، ومن هذه القضايا قضيّة العُنف ضدّ المرأة باعتباره أحد أهمّ أشكال التّمييز ضدّها، وفي هذا السياق يتمّ الخلط بين الحق والباطل، و العادات والدين بصورة غير متجانسة، ولا تهدف إلا إلى تحطيم ما تبقى لدينا من وعي واعتزاز بالذات، ولنأخذ ما اصطلح على تسميته بجرائم الشّرف كنموذج صارخ لهذا الخلط الفاضح في قضيّة العُنف ضدّ المرأة .
الجسد الإنسانيّ بين التّكريم والاستباحة
يقول تعالى: (ولقد كرمنا بني آدم...) [الإسراء:70]، ويقول عز وجل: (يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ... ) [لأعراف:26]
ويقول عزّ من قائل: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ) [النور:30] ، ويقول: (وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ) [النّور:31] .
هذه الآيات وغيرها الكثير تحمل الكثير من سِمات المنهج القرآنيّ في التعامل مع إشكاليّة الجسد، وهو منظور يتماشى مع الفِطرة الإنسانيّة السّويّة، حيث يحتل الجسد موقعًا وسطًا؛ فهو حاضر وفاعل في الحياة، ولكن بصورة كريمة تحفظه من الابتذال والامتهان من خلال ستْرِه والاقتصار على دائرة الزّواج لإشباع حاجته الغريزيّة في الجنس الآخر وهو بهذا يبتعد عن الرهبانيّة التي تهمّش الجسدّ وتحاول أنْ تمحو تلك الغريزة التي فطرها الله في البشر، وهو أمر بعيد عن الحكمة، وأثبت الواقع مدى زيفه وتهافته، وكذلك يبتعد عن الإباحيّة المسعورة التي تسود البشر في كل مرحلة تاريخيّة تتسم بالفوضى، وفي كل حضارة توشك على الذبول والاندثار ولكنّ دعاة التهتّك والفساد – في هذه الأيام – لم يكتفوا بفسادهم وانحرافهم وشذوذهم، بل أصرّوا على تصدير هذا الفساد والانحراف إلى كافة أصقاع الكرة الأرضيّة، وفي المركز منه بلادنا العربيّة والإسلاميّة أو ما اصطلحوا على تسميته أخيرًا "بالشرق الأوسط الكبير" ، وهذا التصدير من اللون الإجباريّ حيث لا يُؤخَذ رأي المستوردين في نوعيّة البضاعة الغثّة، التي غلّفوها بشكل أنيق، ووضعوا لها عناوين برّاقة، وعقدوا لها المؤتمرات والمنتديات، وكان شعارهم في كل هذه المؤتمرات والمنتديات شعار قوم لوط (أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ) [النّمل:56]
فلا مكان في عالمهم الملوّث للمتطهرين الشّرفاء، ولا بدّ من شنّ الحملة وراء الحملة؛ حتى ينعدموا، وينقرضوا، ولا يُسمع لهم صوت ينغص على سادة العالم الجدد ما هم فيه من لذّة حيوانيّة .
حملة للقضاء على البَكَارَة ( والتخلّص من إشكاليّات الشّرَف )
ومن تلك الحملات المشؤومة الحملة على البكارة بمفهومها الماديّ ودِلالتها المعنويّة المرتبطة بها، وهي حملة يتزعّمها في الداخل تيّارات نسويّة(1) متطرّفة تقوم بإعادة صياغة الأجندة الغربيّة عن طريق ربطها بالبيئة العربيّة بصورة مفتعلة وغير موضوعيّة ومستغلة في الوقت ذاته إشكاليّات حقيقيّة تواجه المرأة العربيّة والمسلمة .
وبداية الحملة بدأت ببعض حوادث فردية وشاذّة قام فيها الأهل بالتخلص من فتاتهم؛ لأن ثمّة شكوكًا أثيرت حول طبيعة سلوكها ومدى التزامها بحسن الخلق، ثم ثبت بعد ذلك في تقرير الطبيب الشرعيّ أنّ الفتاة المجنيّ عليها كانت عذراء ولمْ ترتكب فعلا يستدعي ما حدث لها من إزهاق لروح بريئة .. من هذه الحوادث بدأت الحملة لمواجهة هذه الجرائم التي أَخذت اسمًا إعلاميًا هو "جرائم الشرف" ثم ارتفع منحنى الحملة ليصل إلى نقطة خطيرة ،وهي أنّ الحلّ الوحيد للقضاء على مثل هذه الجرائم العنيفة ضد المرأة هو "إلغاء فكرة الشرف" ذاتها عن طريق أنْ يتساوى الجميع في التخلّص الدليل المادي للشرف " غشاء البكارة " والاكتفاء بالدّلالة المعنويّة للشّرف والبكارة تماما، كالشاب الذي لا يوجد دليل ماديّ على شرفه وبكارته، على اعتبار أنّ الشّرف مسألة ليست مرتبطة بالأنثى فحسب. هذه هي المبرّرات الواهية لتلك الحملة الخبيثة، والتي يقودها تلك النّسويات المتطرّفات، وهن يستخدمن كلّ وسائل الإعلام وكلّ الضغوط الدوليّة لتمرير هذه الأفكار، ومن أخطر الوسائل التي استخدمنها الأدب والأعمال الفنيّة(2) سواء كان هذا الأدب نسويًّا أو ما اصطلح على تسميته "بأدب الجسد"، والعامل المشترك بين كل هذه الأعمال الأدبيّة – دون الولوج بالطبع في تحليل الجانب الفنيّ في العمل – أنّ البيت مكان يشبه السّجن بالنسبة للمرأة، وأنّ الجميع يتكاتف على كبتها وإذلالها داخله، وأنّها لابدّ أنْ تستردّ جسدها أولا كي تتحرّر من هذا السجن .. تقول الدكتورة شيرين أبو النجا معبّرة عن هذا التيار النسويّ المتطرّف : " لقد أرست المنظومة المعرفيّة الذكوريّة قواعد واضحة حدّدت أماكن
تواجد النساء والمساحة الخاصة بهن : المنزل . وهي منظومة تربط المنزل وسلسلة من التداعيات والمفاهيم التي تتمحور حولها حياة المرأة أو بمعنى أدق هي المفاهيم التي تشكل هويّة المرأة : رعاية الأبناء ، شرف البنات ، عمل غير مدفوع الأجر ، السلوك القويم ، طاعة الزوج ، وأخيرًا الإنكار المطلق لتفرّد الذات الأنثويّة، وبذلك يصبح المنزل شرنقة منعزلة داخل حدوده الهندسية، أمّا خارجه فتتشكل السّياسات بمعناها الحِرْفِيّ،وعندما يُقال: إنّ المرأة مكانها المنزل " ملكة متوّجة " فالمقصود هو إقصاؤها عن مساحة كبيرة تتشكل فيها الرّؤى، ويصنع فيها القرار أي مساحة تتمركز فيها القوى(3)".
هذا هو المنزل في الفكر النسويّ المتطرف مكان قبيح لقمع المرأة والسّيطرة عليها، وإلهائها في أمور تافهة، وتربية الأبناء، وطاعة الزوج والسلوك القويم !! وهكذا يتمّ السخرية من مفهوم البيت، ومفهوم التربية ،ومفهوم الشرف بحيث لا تتحقّق حريّة المرأة وفاعليتها إلا خارج البيت تمامًا، كما لا تتحقّق هذه الحريّة إلا بحريّة الجسد، الذي هو ملك خاصّ بالمرأة، ولها وحدها حريّة التصرّف فيه من خلال فكرة التجرِبة والخطأ؛ فالجسد من وجهة هذه النظر النّسويّة هو الأسلوب الأمثل لاكتشاف الذات، وأيّ تحرّر يستبعد حريّة الجسد كاملا فليس بالتحرّر الحقيقيّ، هذا الكلام هو مضمون الكثير من الأعمال الأدبيّة والفكريّة النسويّة التي تشقّ طريقها هذه الأيّام بزَخَم شديد، وهو مضمون فكر عالميّ يتشكل ويراد له أنْ يُفرض بكل الوسائل على إنساننا العربيّ المسلم سواء كان رجلا أم امرأة .
جرائم الشّرف .. رُؤية شرعيّة
يقول تعالى: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ...) [النّور:2]
بهذه الصورة القاطعة يساوي الشّرع الإسلاميّ بين الرجل والمرأة في الجريمة المُخِلّة بالشّرف، وبالعقاب الذي يستحقه أيّ إنسان يقارف هذا الفعل .. فالإسلام يريد للإنسان أنْ يحيا حياة نظيفة طاهرة، لذلك أحلّ له الزواج وحرّم عليه الزّنا، لا فرقَ في ذلك بين رجل وامرأة، أو غنيٍّ وفقير، ولم يحمّل المرأة المسؤوليّة وحدها عن هذه الجريمة وما جاء في مثل قوله صلى الله عليه وسلم " إنّ المرأة إذا أقبلت ، أقبلت في صورة شيطان وإذا أدبرت ، أدبرت في صورة شيطان " (4) ، وأنّ " النساء حبائل الشيطان" (5)، وغير ذلك من أحاديث فلابدّ من فهمها في سياق كل الأحاديث التي تتحدث عن المرأة في مثل قوله صلى الله عليه وسلم " النّساء شقائق الرّجال " (6) فالمرأة أحبولة الشيطان هي التي تترك نفسها للشيطان يختار لها أزيائها ومشيتها وتلك هي المرأة التي علقت عليها السيدة عائشة بقولها: إنّ الرسول لو رأى ما أحدث النساء لمنعهن من المساجد كما منعت نساء بني إسرائيل، في حين أن الرسول قال: " لا تمنعوا إماء الله مساجد الله" (7) وليس ثمّة تناقض أو إشكالات فالمرأة أمة الله لا تمنع المسجد؛ لأنّها جزء صالح من نسيج المجتمع، له أنْ يتمتّع بكامل حقوقه الإيمانيّة، أمّا المرأة (أحبولة الشيطان) فهي تُمنع المسجد، و لابدّ من عقابها وازدرائها من المجتمع حتى تعود إلى رشدها ودينها.
وهناك الرّجل الشّيطان نفسه ينتهك الحرمات، ويلَغ في الأعراض بلا أدنى إحساس من ضمير، وهو ولاشك عضو مرفوض من مجتمع المؤمنين؛ لذلك رفض الرسول أنْ يتهاون مع الرجل الذي أراد الدّخول في الإسلام بشرط أنْ تترك له حرية الزّنا وأفهمه بمنطق بسيط وواضح أنّ الحُرُمات كلها مقدسة، فهل يرضى أحد أن تنتهك حرمة أمه أو أخته أو زوجه؟
كذلك فالتائب والتائبة متساويان ويتقبلهما المجتمع الإسلامي بكل ترحاب، وهذا ما دفع الرسول صلى الله علبه وسلم أنْ يُعلّق على توبة الغامديّة بقوله: "إنها تابت توبة لو وزّعت على أهل الأرض لكفتهم" ( هذا هو موقف الإسلام منذ اللحظة الأولى التي يواجه فيها هذا النوع من الجرائم فقبل تقرير حد معين على الزنا قال تعالى : " (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً) [النساء:15]
ولأنّه من الصّعوبة بمكان أنْ يحبس الرجل طول عمره فكانت عقوبته الإيذاء متروكا لضمير الجماعة المؤمنة (وَالَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا...) [النساء: من الآية16] ، ثم نزلت (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ... )(النور: من الآية2) وزاد بعض العلماء تغريب الشاب سنة كاملة، ولم يضيفوا عقوبة للمرأة وحتى أثناء الجلد يُعَرّى ظهر الرجل، أما المرأة حتى وهي زانية فإنّ سترها واجب وأمّا المحصن والمحصنة فجرت سنّة الرسول صلى الله عليه وسلم العمليّة على رجمهما لا فرق في ذلك بين الرجل والمرأة، وإذا اتّهم الزوجُ زوجَته بمثل هذه الجريمة بلا شهود على قوله فسُنّ لذلك الملاعنة التي تفسخ الزّواج، ولم يُسَنّ له قتل الزوجة مثلا، والعقاب في كل هذه الجرائم يتمّ عن طريق السّلطة الشرعيّة، وليس موكولا للأفراد؛ للانتقام بوسائلهم الخاصة كما نرى من بعض الجَهَلة هذه الأيام.
جرائم الشرف .. رُؤية مجتمعيّة .
لكن إذا كان هذا موقف الشّرع من الجرائم الخلقيّة الشهيرة بجرائم الشرف فلماذا يُحَمّل المجتمعُ المرأةَ الوِزْرَ الأكبرَ من هذه الخطيئة؟ ولماذا تظلّ التائبة موضع شكّ ورِيبة واتهام؟ لا بدّ قبل إدانة المجتمع وجلده واتهامه بمجافاة روح الشّرع(الذي ساوى بين الرّجل والمرأة في الجريمة والعقاب مثلما ساوى بينهما في إمكانية اكتساب الفضيلة والتدرج في مراتب السّموّ الرفعة) أقول لا بدّ قبل الإدانة من تفهم الأسباب التي دعت المجتمع إلى ذلك .. فمن ذلك أنّ خوف المجتمع على المرأة أشدّ من خوفه على الرجل؛ لأنّ المرأة هي الخاسر الأكبر من جرّاء هذه العلاقة غير المشروعة فالمرأة لها طبيعة نفسيّة تختلف عن طبيعة الرجل النفسيّة؛ فالصّدمة التي تشعر بها المرأة عندما تدرك حجم الخطأ الذي وقعت فيه،ونظرتها المُزرية لنفسها أمر قد يؤدي بها إلى الانتحار، وهي لا تتحمل العلاقات العابرة التي لا تؤصل لمفهوم الاستقرار والسكن الذي هو أمر غريزي لدى المرأة ،والأخطر من ذلك أنّ هذه العلاقة قد تترك خلفها روحا بريئة تتحمل المرأة وحدها عبء مسؤوليتها؛ فكثير من الفتيات الأمريكيّات -على سبيل المثال- اختفى من حياتهنّ الصّديق الذي شاركهنّ الإثم ساعةً ليتركهنّ وحدهنّ يتجرعن طعم المأساة المرة؛ فهنّ بحاجة إلى المال كي تنفق إحداهنّ على نفسها وطفلها وقد تلجأ للإجهاض الذي قد يودي بحياتهما ... الخ .
فالمجتمع يريد أنْ يحمي المرأة من كل هذه الآلام التي قد تتحملها وحدها؛ فيقسو عليها حتى يجعل وقوعها في الخطيئة أمرًا بالغ الصعوبة .
ومن أسباب تشدّد المجتمع تجاه المرأة،أنّه بذلك يغلق الباب أمام فساد المجتمع كله؛ فلو أنّ جميع النساء ملتزمات فمع من سينحرف الرّجال ؟!
وكذلك من أساب هذا التّشدد أنّ المرأة أقدر بطبيعتها أنْ تتحكم في أحاسيسها وغريزتها، يؤكد ذلك جميع العلماء الذين درسوا الجنس بين الرجل والمرأة وعلى رأسهم فرويد .
وعلى الرغم من ذلك فالمجتمع في مجمله يزدري الرجل المنحرف أشدّ الازدراء، ويرفضه ويندّد به؛ فليس صحيحًا أنّه يتساهل معه، أو يتقبّله ببساطة كما يدّعي البعض؛ فالفارق بين الرجل والمرأة هو اختلاف في درجة العقاب الماديّ والمعنويّ، وليس الهدف من ذلك إبراء مجتمعاتنا من كل نقيصة أو خطأ، ولكنّها محاولة للفهم الصّحيح بعيدًا عن الفهم المتطرّف الذي يلوي أعناق الحقائق للوصول إلى نتائج موضوعة سلفًا.
الجسد الإنسانيّ بين التّكريم والاستباحة
يقول تعالى: (ولقد كرمنا بني آدم...) [الإسراء:70]، ويقول عز وجل: (يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ... ) [لأعراف:26]
ويقول عزّ من قائل: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ) [النور:30] ، ويقول: (وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ) [النّور:31] .
هذه الآيات وغيرها الكثير تحمل الكثير من سِمات المنهج القرآنيّ في التعامل مع إشكاليّة الجسد، وهو منظور يتماشى مع الفِطرة الإنسانيّة السّويّة، حيث يحتل الجسد موقعًا وسطًا؛ فهو حاضر وفاعل في الحياة، ولكن بصورة كريمة تحفظه من الابتذال والامتهان من خلال ستْرِه والاقتصار على دائرة الزّواج لإشباع حاجته الغريزيّة في الجنس الآخر وهو بهذا يبتعد عن الرهبانيّة التي تهمّش الجسدّ وتحاول أنْ تمحو تلك الغريزة التي فطرها الله في البشر، وهو أمر بعيد عن الحكمة، وأثبت الواقع مدى زيفه وتهافته، وكذلك يبتعد عن الإباحيّة المسعورة التي تسود البشر في كل مرحلة تاريخيّة تتسم بالفوضى، وفي كل حضارة توشك على الذبول والاندثار ولكنّ دعاة التهتّك والفساد – في هذه الأيام – لم يكتفوا بفسادهم وانحرافهم وشذوذهم، بل أصرّوا على تصدير هذا الفساد والانحراف إلى كافة أصقاع الكرة الأرضيّة، وفي المركز منه بلادنا العربيّة والإسلاميّة أو ما اصطلحوا على تسميته أخيرًا "بالشرق الأوسط الكبير" ، وهذا التصدير من اللون الإجباريّ حيث لا يُؤخَذ رأي المستوردين في نوعيّة البضاعة الغثّة، التي غلّفوها بشكل أنيق، ووضعوا لها عناوين برّاقة، وعقدوا لها المؤتمرات والمنتديات، وكان شعارهم في كل هذه المؤتمرات والمنتديات شعار قوم لوط (أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ) [النّمل:56]
فلا مكان في عالمهم الملوّث للمتطهرين الشّرفاء، ولا بدّ من شنّ الحملة وراء الحملة؛ حتى ينعدموا، وينقرضوا، ولا يُسمع لهم صوت ينغص على سادة العالم الجدد ما هم فيه من لذّة حيوانيّة .
حملة للقضاء على البَكَارَة ( والتخلّص من إشكاليّات الشّرَف )
ومن تلك الحملات المشؤومة الحملة على البكارة بمفهومها الماديّ ودِلالتها المعنويّة المرتبطة بها، وهي حملة يتزعّمها في الداخل تيّارات نسويّة(1) متطرّفة تقوم بإعادة صياغة الأجندة الغربيّة عن طريق ربطها بالبيئة العربيّة بصورة مفتعلة وغير موضوعيّة ومستغلة في الوقت ذاته إشكاليّات حقيقيّة تواجه المرأة العربيّة والمسلمة .
وبداية الحملة بدأت ببعض حوادث فردية وشاذّة قام فيها الأهل بالتخلص من فتاتهم؛ لأن ثمّة شكوكًا أثيرت حول طبيعة سلوكها ومدى التزامها بحسن الخلق، ثم ثبت بعد ذلك في تقرير الطبيب الشرعيّ أنّ الفتاة المجنيّ عليها كانت عذراء ولمْ ترتكب فعلا يستدعي ما حدث لها من إزهاق لروح بريئة .. من هذه الحوادث بدأت الحملة لمواجهة هذه الجرائم التي أَخذت اسمًا إعلاميًا هو "جرائم الشرف" ثم ارتفع منحنى الحملة ليصل إلى نقطة خطيرة ،وهي أنّ الحلّ الوحيد للقضاء على مثل هذه الجرائم العنيفة ضد المرأة هو "إلغاء فكرة الشرف" ذاتها عن طريق أنْ يتساوى الجميع في التخلّص الدليل المادي للشرف " غشاء البكارة " والاكتفاء بالدّلالة المعنويّة للشّرف والبكارة تماما، كالشاب الذي لا يوجد دليل ماديّ على شرفه وبكارته، على اعتبار أنّ الشّرف مسألة ليست مرتبطة بالأنثى فحسب. هذه هي المبرّرات الواهية لتلك الحملة الخبيثة، والتي يقودها تلك النّسويات المتطرّفات، وهن يستخدمن كلّ وسائل الإعلام وكلّ الضغوط الدوليّة لتمرير هذه الأفكار، ومن أخطر الوسائل التي استخدمنها الأدب والأعمال الفنيّة(2) سواء كان هذا الأدب نسويًّا أو ما اصطلح على تسميته "بأدب الجسد"، والعامل المشترك بين كل هذه الأعمال الأدبيّة – دون الولوج بالطبع في تحليل الجانب الفنيّ في العمل – أنّ البيت مكان يشبه السّجن بالنسبة للمرأة، وأنّ الجميع يتكاتف على كبتها وإذلالها داخله، وأنّها لابدّ أنْ تستردّ جسدها أولا كي تتحرّر من هذا السجن .. تقول الدكتورة شيرين أبو النجا معبّرة عن هذا التيار النسويّ المتطرّف : " لقد أرست المنظومة المعرفيّة الذكوريّة قواعد واضحة حدّدت أماكن
تواجد النساء والمساحة الخاصة بهن : المنزل . وهي منظومة تربط المنزل وسلسلة من التداعيات والمفاهيم التي تتمحور حولها حياة المرأة أو بمعنى أدق هي المفاهيم التي تشكل هويّة المرأة : رعاية الأبناء ، شرف البنات ، عمل غير مدفوع الأجر ، السلوك القويم ، طاعة الزوج ، وأخيرًا الإنكار المطلق لتفرّد الذات الأنثويّة، وبذلك يصبح المنزل شرنقة منعزلة داخل حدوده الهندسية، أمّا خارجه فتتشكل السّياسات بمعناها الحِرْفِيّ،وعندما يُقال: إنّ المرأة مكانها المنزل " ملكة متوّجة " فالمقصود هو إقصاؤها عن مساحة كبيرة تتشكل فيها الرّؤى، ويصنع فيها القرار أي مساحة تتمركز فيها القوى(3)".
هذا هو المنزل في الفكر النسويّ المتطرف مكان قبيح لقمع المرأة والسّيطرة عليها، وإلهائها في أمور تافهة، وتربية الأبناء، وطاعة الزوج والسلوك القويم !! وهكذا يتمّ السخرية من مفهوم البيت، ومفهوم التربية ،ومفهوم الشرف بحيث لا تتحقّق حريّة المرأة وفاعليتها إلا خارج البيت تمامًا، كما لا تتحقّق هذه الحريّة إلا بحريّة الجسد، الذي هو ملك خاصّ بالمرأة، ولها وحدها حريّة التصرّف فيه من خلال فكرة التجرِبة والخطأ؛ فالجسد من وجهة هذه النظر النّسويّة هو الأسلوب الأمثل لاكتشاف الذات، وأيّ تحرّر يستبعد حريّة الجسد كاملا فليس بالتحرّر الحقيقيّ، هذا الكلام هو مضمون الكثير من الأعمال الأدبيّة والفكريّة النسويّة التي تشقّ طريقها هذه الأيّام بزَخَم شديد، وهو مضمون فكر عالميّ يتشكل ويراد له أنْ يُفرض بكل الوسائل على إنساننا العربيّ المسلم سواء كان رجلا أم امرأة .
جرائم الشّرف .. رُؤية شرعيّة
يقول تعالى: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ...) [النّور:2]
بهذه الصورة القاطعة يساوي الشّرع الإسلاميّ بين الرجل والمرأة في الجريمة المُخِلّة بالشّرف، وبالعقاب الذي يستحقه أيّ إنسان يقارف هذا الفعل .. فالإسلام يريد للإنسان أنْ يحيا حياة نظيفة طاهرة، لذلك أحلّ له الزواج وحرّم عليه الزّنا، لا فرقَ في ذلك بين رجل وامرأة، أو غنيٍّ وفقير، ولم يحمّل المرأة المسؤوليّة وحدها عن هذه الجريمة وما جاء في مثل قوله صلى الله عليه وسلم " إنّ المرأة إذا أقبلت ، أقبلت في صورة شيطان وإذا أدبرت ، أدبرت في صورة شيطان " (4) ، وأنّ " النساء حبائل الشيطان" (5)، وغير ذلك من أحاديث فلابدّ من فهمها في سياق كل الأحاديث التي تتحدث عن المرأة في مثل قوله صلى الله عليه وسلم " النّساء شقائق الرّجال " (6) فالمرأة أحبولة الشيطان هي التي تترك نفسها للشيطان يختار لها أزيائها ومشيتها وتلك هي المرأة التي علقت عليها السيدة عائشة بقولها: إنّ الرسول لو رأى ما أحدث النساء لمنعهن من المساجد كما منعت نساء بني إسرائيل، في حين أن الرسول قال: " لا تمنعوا إماء الله مساجد الله" (7) وليس ثمّة تناقض أو إشكالات فالمرأة أمة الله لا تمنع المسجد؛ لأنّها جزء صالح من نسيج المجتمع، له أنْ يتمتّع بكامل حقوقه الإيمانيّة، أمّا المرأة (أحبولة الشيطان) فهي تُمنع المسجد، و لابدّ من عقابها وازدرائها من المجتمع حتى تعود إلى رشدها ودينها.
وهناك الرّجل الشّيطان نفسه ينتهك الحرمات، ويلَغ في الأعراض بلا أدنى إحساس من ضمير، وهو ولاشك عضو مرفوض من مجتمع المؤمنين؛ لذلك رفض الرسول أنْ يتهاون مع الرجل الذي أراد الدّخول في الإسلام بشرط أنْ تترك له حرية الزّنا وأفهمه بمنطق بسيط وواضح أنّ الحُرُمات كلها مقدسة، فهل يرضى أحد أن تنتهك حرمة أمه أو أخته أو زوجه؟
كذلك فالتائب والتائبة متساويان ويتقبلهما المجتمع الإسلامي بكل ترحاب، وهذا ما دفع الرسول صلى الله علبه وسلم أنْ يُعلّق على توبة الغامديّة بقوله: "إنها تابت توبة لو وزّعت على أهل الأرض لكفتهم" ( هذا هو موقف الإسلام منذ اللحظة الأولى التي يواجه فيها هذا النوع من الجرائم فقبل تقرير حد معين على الزنا قال تعالى : " (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً) [النساء:15]
ولأنّه من الصّعوبة بمكان أنْ يحبس الرجل طول عمره فكانت عقوبته الإيذاء متروكا لضمير الجماعة المؤمنة (وَالَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا...) [النساء: من الآية16] ، ثم نزلت (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ... )(النور: من الآية2) وزاد بعض العلماء تغريب الشاب سنة كاملة، ولم يضيفوا عقوبة للمرأة وحتى أثناء الجلد يُعَرّى ظهر الرجل، أما المرأة حتى وهي زانية فإنّ سترها واجب وأمّا المحصن والمحصنة فجرت سنّة الرسول صلى الله عليه وسلم العمليّة على رجمهما لا فرق في ذلك بين الرجل والمرأة، وإذا اتّهم الزوجُ زوجَته بمثل هذه الجريمة بلا شهود على قوله فسُنّ لذلك الملاعنة التي تفسخ الزّواج، ولم يُسَنّ له قتل الزوجة مثلا، والعقاب في كل هذه الجرائم يتمّ عن طريق السّلطة الشرعيّة، وليس موكولا للأفراد؛ للانتقام بوسائلهم الخاصة كما نرى من بعض الجَهَلة هذه الأيام.
جرائم الشرف .. رُؤية مجتمعيّة .
لكن إذا كان هذا موقف الشّرع من الجرائم الخلقيّة الشهيرة بجرائم الشرف فلماذا يُحَمّل المجتمعُ المرأةَ الوِزْرَ الأكبرَ من هذه الخطيئة؟ ولماذا تظلّ التائبة موضع شكّ ورِيبة واتهام؟ لا بدّ قبل إدانة المجتمع وجلده واتهامه بمجافاة روح الشّرع(الذي ساوى بين الرّجل والمرأة في الجريمة والعقاب مثلما ساوى بينهما في إمكانية اكتساب الفضيلة والتدرج في مراتب السّموّ الرفعة) أقول لا بدّ قبل الإدانة من تفهم الأسباب التي دعت المجتمع إلى ذلك .. فمن ذلك أنّ خوف المجتمع على المرأة أشدّ من خوفه على الرجل؛ لأنّ المرأة هي الخاسر الأكبر من جرّاء هذه العلاقة غير المشروعة فالمرأة لها طبيعة نفسيّة تختلف عن طبيعة الرجل النفسيّة؛ فالصّدمة التي تشعر بها المرأة عندما تدرك حجم الخطأ الذي وقعت فيه،ونظرتها المُزرية لنفسها أمر قد يؤدي بها إلى الانتحار، وهي لا تتحمل العلاقات العابرة التي لا تؤصل لمفهوم الاستقرار والسكن الذي هو أمر غريزي لدى المرأة ،والأخطر من ذلك أنّ هذه العلاقة قد تترك خلفها روحا بريئة تتحمل المرأة وحدها عبء مسؤوليتها؛ فكثير من الفتيات الأمريكيّات -على سبيل المثال- اختفى من حياتهنّ الصّديق الذي شاركهنّ الإثم ساعةً ليتركهنّ وحدهنّ يتجرعن طعم المأساة المرة؛ فهنّ بحاجة إلى المال كي تنفق إحداهنّ على نفسها وطفلها وقد تلجأ للإجهاض الذي قد يودي بحياتهما ... الخ .
فالمجتمع يريد أنْ يحمي المرأة من كل هذه الآلام التي قد تتحملها وحدها؛ فيقسو عليها حتى يجعل وقوعها في الخطيئة أمرًا بالغ الصعوبة .
ومن أسباب تشدّد المجتمع تجاه المرأة،أنّه بذلك يغلق الباب أمام فساد المجتمع كله؛ فلو أنّ جميع النساء ملتزمات فمع من سينحرف الرّجال ؟!
وكذلك من أساب هذا التّشدد أنّ المرأة أقدر بطبيعتها أنْ تتحكم في أحاسيسها وغريزتها، يؤكد ذلك جميع العلماء الذين درسوا الجنس بين الرجل والمرأة وعلى رأسهم فرويد .
وعلى الرغم من ذلك فالمجتمع في مجمله يزدري الرجل المنحرف أشدّ الازدراء، ويرفضه ويندّد به؛ فليس صحيحًا أنّه يتساهل معه، أو يتقبّله ببساطة كما يدّعي البعض؛ فالفارق بين الرجل والمرأة هو اختلاف في درجة العقاب الماديّ والمعنويّ، وليس الهدف من ذلك إبراء مجتمعاتنا من كل نقيصة أو خطأ، ولكنّها محاولة للفهم الصّحيح بعيدًا عن الفهم المتطرّف الذي يلوي أعناق الحقائق للوصول إلى نتائج موضوعة سلفًا.